غسان الرائد:
تجب وضع دراسة مفصلة عن حياة غسان الادبية والسياسية والصحفية ولكننا في هذه العجالة نكتفي بايراد أمثلة عن ريادته بذكر بعض المواقف في حياته وعتها الذاكرة:
كان غسان أول من كتب عن حياة أبناء الخليج المتخلفة ووصف حياتهم وصفاً دقيقا مذهلا وذلك في قصته "موت سرير رقم 12" ولا أستطيع أن اؤكد اذا كان سواه قد كتب عن ذلك من بعده.
فى أوائل ثورة 58 بالعراق ايام حكم عبد الكريم قاسم زار غسان العراق ورأى بحسه الصادق انحراف النظام فعاد وكتب عن ذلك بتوقيع "أبو العز" مهاجما العراق فقامت قيامة الأنظمة المتحررة ضده الى أن ظهر لهم انحراف الحكم فعلا فكانوا أول من هنأوه على ذلك مسجلين سبقه في كتاب خاص بذلك.
بعد أن استلم رئاسة تحرير جريدة "المحرر" اليومية استحدث صفحة للتعليقات السياسية الجادة وكانت على ما أذكر الصفحة الخامسة وكان يحررها هو وآخرون. ومنذ سنة تقريبا استحدثت احدى كبريات الصحف اليومية فى بيروت صفحة مماثلة وكتب من كتب وأحدهم استاذ صحافة فى الجامعة الاميركية كتبوا في تقريظ هذه الصفحة وساءنى أن يجهل حتى المختصون بالصحافة ان غسان قام بهذه التجربة منذ سنوات .
لا أحد يجهل أن غسان كنفاني هو أول من كتب عن شعراء المقاومة ونشر لهم وتحدث عن أشعارهم وعن أزجالهم الشعبية فى الفترات الاولى لتعريف العالم العربي على شعر المقامة ، لم تخل مقالة كتبت عنهم من معلومات كتبها غسان وأصبحت محاضته عنهم ومن ثم كتابه عن "شعراء الارض المحتلة" مرجعا مقررا فى عدد من الجامعات وكذلك مرجعا للدارسين.
الدراسة الوحيدة الجادة عن الادب الصهيونى كانت لغسان ونشرتها مؤسسة الأبحاث بعنوان "في الأدب الصهيوني". أشهر الصحافيين العرب يكتب الآن عن حالة اللا سلم واللا حرب ولو عدنا قليلا الى الاشهر التى تلت حرب حزيران 67 وتابعنا تعليقات غسان السياسية فى تلك الفترة لوجدناه يتحدث عن حالة اللا سلم واللا حرب اى قبل سنوات من الاكتشاف الاخير الذى تحدثت عنه الصحافة العربية والاجنبية.
اننا نحتاج الى وقت طويل قبل أن نستوعب الطاقات والمواهب التى كان يتمتع بها غسان كنفاني. هل نتحدث عن صداقاته ونقول أنه لم يكن له عدو شخصى ولا في أى وقت واي ظرف أم نتحدث عن تواضعه وهو الرائد الذى لم يكن يهمه سوى الاخلاص لعمله وقضيته أم نتحدث عن تضحيته وعفة يده وهو الذى عرضت عليه الالوف والملايين ورفضها بينما كان يستدين العشرة ليرات من زملائه. ماذا نقول وقد خسرناه ونحن أشد ما نكون فى حاجة اليه ، الى ايمانه واخلاصه واستمراره على مدى سنوات في الوقت الذى تساقط سواه كأوراق الخريف يأساً وقنوطا وقصر نفس.
كان غسان شعباً في رجل ، كان قضية ، كان وطناً ، ولا يمكن أن نستعيده الا إذا استعدنا الوطن.
عمل فى الصحف والمجلات العربية التالية:
- عضو في أسرة تحرير مجلة "الرأى" في دمشق.
- عضو في أسرة تحرير مجلة "الحرية" فى بيروت.
- رئيس تحرير جريدة "المحرر" في بيروت.
- رئيس تحرير "فلسطين" في جريدة المحرر.
- رئيس تحرير ملحق "الأنوار" في بيروت.
- صاحب ورئيس تحرير "الهدف" في بيروت.
كما كان غسان كنفاني فنانا مرهف الحس ، صمم العديد من ملصقات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، كما رسم العديد من اللوحات.
من مؤلفات الشهيد:
(1) قصص ومسرحيات :
- موت سرير رقم 12.
- أرض البرتقال الحزين.
- رجال في الشمس - قصة فيلم "المخدوعون".
- الباب - مسرحية.
- عالم ليس لنا.
- ما تبقى لكم - قصة فيلم السكين.
- عن الرجال والبنادق.
- أم سعد.
- عائد إلي حيفا.
(2) بحوث أدبية:
- أدب المقامة في فلسطين المحتلة.
- الأدب العربي المقاوم في ظل الإحتلال.
- في الأدب الصهيوني.
(3) مؤلفات سياسية:
- المقاومة الفلسطينية ومعضلاتها.
- مجموعة كبيرة من الدراسات والمقالات التي تعالج جوانب معينة من تاريخ النضال الفلسطيني وحركة التحرر الوطني العربية (سياسياً وفكرياً وتنظيمياً).
استشهد صباح يوم السبت 8/7/1972 بعد أن انفجرت عبوات ناسفة كانت قد وضعت في سيارته تحت منزله مما أدي إلي استشهاده مع إبنة شقيقته لميس حسين نجم (17 سنة).
كنفاني، جبرا، حبيبي: قراءة من داخل الخزّان
تبرز مكانة غسان كنفاني في كونه السارد الفلسطيني لمرحلة التهجير واللجوء، وتشكُّل سؤال المقاومة الفلسطينية الذي تجاوز خطاب التفجع والبكاء وانتظار الإغاثة. فكنفاني هو أيضاً كاتب تجربته الشخصية التي تماهت مع التجربة الجمعية إلى درجة يصعب فصل الواحدة عن الأخرى. وهو يشكّل حالةً استثنائيةً في اقترابه المباشر من حرارة التجربة وكتابتها، من دون أن تحترق أجنحة الفنّ في كتابته.
ولهذا بقي النموذج الكنفاني ـ على بساطته ـ خارج متناول المقلّدين، يصعب تكراره من دون السقوط في الخطابة.
الروائي والقاصّ الذي سجّل التجربة الفلسطينية بحرارة، وعن كثب، بين 1948 و1972، بقيت رواياته العلامة الأبرز في إنتاجه. عمرٌ «أنفقه» بين الكتابة والعمل السياسي، تمّ قصفه مبكراً قبل أن يبلغ الذروة الأدبيّة. إذ يصعب تخيّل ما كان سينجزه لو بقي حياً حتى اليوم مثلاً، وبلغ الحادية والسبعين، أي السنّ التي أتيحت لروائيين فلسطينيين كجبرا إبراهيم جبرا (1920ـ1994) وإميل حبيبي (1921ــ1996) ممن شاركوه في تقديم السردية الفلسطينية المعاصرة. شاركه جبرا في سردية التهجير والمنفى (منفى المثقف والمقترن بالحظ في حالة جبرا)، بينما اختصّ حبيبي أكثر بسردية البقاء في الوطن المحتل: تلك السردية الساخرة المريرة كما تجلّت في «المتشائل». ويمكننا اليوم أن ننظر إلى علاقة التناص، أو بمقاربة أبسط التحاور، بين عنوان أشهر روايات كنفاني «عائد إلى حيفا»، والعبارة التي طلب حبيبي أن تنقش على شاهدة قبره: «باق في حيفا». كأننا بـ«المتشائل» يرد هنا على زميله، ويذكّر معاصريه بأنه، خلافاً للآخرين، بقي في فلسطين التاريخيّة التي تغيّرت هويتها، وعاش التجربة السياسية الصاخبة، والملتبسة التي نعرف. وإذا نظرنا جيداً، يمكننا أن نلاحظ منطقة مشتركة بين كاتبين اعتدنا أن نراهما عالمين منفصلين: كنفاني صاحب سؤال المقاومة الذي كتب خلال مرحلة الصعود القومي وتشكُّل سؤال المقاومة، وحبيبي مؤرّخ الهزيمة والعزلة القومية والبقاء في الوطن المحتل... هما وجهان للحكاية نفسها. وحين تناول كنفاني مسألة التباس الهوية من خلال شخصية الطفل الذي نسيه أهله عند النزوح من فلسطين عام 1948، فربّته عائلة إسرائيلية وأصبح ـــ من دون أن يعي هويته ـــ جندياً في جيش الاحتلال يحسب نفسه إسرائيلياً! وهي رؤية ربما لم يستسغها كثيراً الرأي العام الفلسطيني والعربي من كنفاني يومها، لكنّها اليوم باتت رؤية لها نصيب من الواقع. ولو تساءلنا عن تأثيرات كنفاني اليوم على كتّاب السرد الفلسطينيين، وخصوصاً الداخل الفلسطيني، لوجدناها أقل بكثير من تأثيرات إميل حبيبي. إذ تبدو تأثيرات هذا الأخير واضحة في الجيل الجديد عبر تلك اللغة الساخرة والقدرة على التعري، وعدم إنكار الهزيمة، بل الجرأة في إعلانها واستمداد القوة من ذلك. فوعي الهزيمة هنا هو شرط تجاوزها، وقوة المهزوم تكمن في صدقه مع نفسه، ودفاعه عن ذاكرته.
وفي حين أنّ كتابة حبيبي أكثر تأثيراً من أعمال كنفاني في الجيل الجديد من الروائيين الفلسطينيين، إلا أنّ تأثير كنفاني كرمز يتجاوز بكثير تأثير حبيبي، ليس فقط بسبب منزلته الأيقونية كشهيد وفارس كلمة، بل لأنّ كنفاني هو شخصية مضاءة بفترة الصعود القومي وسؤال المقاومة. وعليه، فهو ملهمٌ في شخصيته ومواقفه وتقدّميته ونقديته وحداثة رؤيته إلى العالم، وفي القيم التي جسّدتها شخصيته. بينما كانت شخصية إميل حبيبي «ضحية» لفترة الهزيمة، ولكونه ينتمي إلى قسم من الشعب الفلسطيني وجد نفسه أقلّية في أرضه، معزولاً عن بقية شعبه وأمته العربية، فُرض عليه أن «يكون» إسرائيلياً بين ليلة وضحاها، وبالتالي تجرّع الهزيمة مزدوجةً، فتجلّت مقاومته لها تراجيديا يومية سجّلها حبيبي في أعماله الأدبيّة. أضف إلى ذلك أنّ مواقف حبيبي السياسية لم تنل القبول والإعجاب الذي حازته أعماله الأدبية، إذ عانى سوء فهم، وفُسرت بعض مواقفه عكس ما كان يشتهي أو يضمر.
أخيراً، يبرز دائماً سؤال القيمة الأدبية وتغيّر السياق أو تحوّلاته على قراءة غسان كنفاني، فلسطينياً على الأخص. إذ يُفترض دوماً أنّ السياق تغيّر، وأنّ أدب كنفاني هو أدب سياق. وهي كلها افتراضات لا تبدو دقيقة بشكل كاف لطرحها بهذه الطريقة. (رغم الإقرار بأن «الالتزام» الأدبي بمفهومه الخمسيني والستيني يعاني جملة مركّبات ليست في صالح الكتابة كفنّ). وفي حالة كنفاني يتصاعد هذا النقاش، لكون قراءة كنفاني عانت دوماً من الأدلجة والتنميط. وفي فلسطين، كانت قراءته جزءاً من مقرّرات الجبهة الشعبية على منتسبيها. كما أنّ كنفاني كان أحد أهم منظري «أدب المقاومة» و«شعر المقاومة». ولعله كان أحد نحاتي هذا المصطلح ومروّجيه عربياً. هذا المصطلح الذي تحوّل قالباً لاحقاً، وصار ضرورياً كسره لتحرير الكتابة وإعطاء فعالية أكبر لفكرة المقاومة،.
واليوم، لم تنته مرحلة اللجوء بعد، بل إنّ تراجيديتها تأخذ أبعاداً سريالية حين «يلجأ» مثلاً لاجئو مخيم «نهر البارد» في الشمال اللبناني إلى مخيم لبناني آخر، وتعلو المطالب بحقّ «عودتهم» إلى مخيّمهم! الحالة الفلسطينية التي صوّرها كنفاني عقب النكبة ماثلة اليوم وتكاد تتطابق مشاهد من رواياته مع صور الفلسطينيين بعد 60 عاماً على اللجوء الأول... تمر كشريط سريع في مناطق مختلفة من الجغرافيا العربية خصوصاً. في كل مطار، نتذكر «رجال في الشمس»، وعند كل نقطة حدود عربية، هناك شاحنة وخزان وسائق فقد رجولته اسمه «أبو الخيزران» لا ينفك يتغنى بفحولته؛ بينما نحن في «الخزان» (أي «ما تبقى لنا» من فلسطين)، نقرأ غسان ونفكر بالكاتب الشاب الذي توقف عن الكتابة في الـ 36... نتخيّل يده تطير لحظة التفجير. يده التي وجدوها تلبس الساعة المتوقفة عند الساعة 11، على سطح إحدى بنايات بيروت!
غسان كنفاني المبدع المتعدد عيشة عن عيشة.. تفرق!
لو كان غسان كنفاني اليوم على قيد الحياة لكان عمره 71 عاماً. وُلد في 9 نيسان عام 1936 في عكا، واستشهد في 8 تموز 1972 في الحازمية في بيروت، بعد تفجير سيارته من قبل عملاء الموساد.
تمزق جسده أشلاء، ووجدوا يده على سطح إحدى بنايات الحازمية، يد الكاتب التي لم تخذل القلم، لم تؤجره ولم تبعه، رحل الإنسان الذي لم يعش حياة طويلة، لكنها عريضة!
ولد عام 1936 وعاش 36 عاماً.. فقط. إنه مبدع متعدد، بل عدة مبدعين في مبدع واحد، ترك وراءه قصصاً وروايات ومسرحيات ودراسات ورسومات ومجلة أسسها هي "الهدف" شعارها "الحقيقة كل الحقيقة للجماهير"، وترك سيرة عطرة، وأمثولة حية.
في قتله لغسان كنفاني، عرف العدو الصهيوني من يصطاد. وإذا كان هنالك الألوف ممن قاتلوا ويقاتلون بالبندقية، فإن غسان كنفاني هو من القلة القليلة التي أبدعت في قتال العدو بالكلمة، الكلمة التي لا يقل تأثيرها عن الرصاصة بل ربما تفوقها تأثيراً، وتتفوق عليها بُعداً وأثراً. غسان من الذين جسدوا ليس فقط حكمة "إعرف نفسك" بل جسد كذلك حكمة "إعرف عدوك"، معرفة ليست محض تأملية وباردة، وليست معرفة من أجل المعرفة، بل معرفة راصدة وساخنة، معرفة من أجل الصراع!
يكفي أن نضرب مثالاً واحداً على ذلك وهي الدراسة التي أنجزها غسان ""في الأدب الصهيوني"، والتي قال فيها: "وكل ما تطمح إليه هذه الدراسة هو أن تلقي ضوءاً آخر على الشعار الصعب: اعرف عدوك" ... "إن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت أن استولدتها وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نُظمت لتخدم هدفاً واحداً".
كان غسان كاتباً موهوباً وأديباً لامعاً لفت إليه أنظار النقاد والأوساط الثقافية مبكراً، حازت بعض أعماله على جوائز، وقد اعتمدت بعض الدول العربية أدبه في مناهجها التعليمية، كما ترجم أدبه إلى العديد من لغات العالم، وكان تراثه الأدبي مادة للعديد من الأطروحات الجامعية، وتم استلهام بعض أعماله أساساً لأعمال فنية سينمائية خاصة "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا".
يقول محمود درويش: "إن غسان كنفاني قد نقل الحبر إلى مرتبة الشرف، وأعطاه قيمة الدم" (مقدمة المجلد الرابع من الأعمال الكاملة)، ويقول عنه كذلك: "إن غسان درسٌ سياسي وأدبي وأخلاقي معاً". ("شؤون فلسطينية" العدد 12، آب 1972).
غسان كنفاني "عاش كشمعة تحترق من الجانبين" على حد تعبير صقر أبو فخر ("الهدف" 31 تموز 2001)، كان في صراع مع جسده حيث كان مصاباً بمرض السكري، يعطي نفسه بنفسه إبرة الأنسولين، كي يوفر وقت الذهاب إلى الطبيب أو الممرضة، كي يكسب زمناً لأنه يعرف انه في صراع مع الزمن، ولديه إدراك عبر عنه في كتابته أن عمره سيكون قصيراً، لذا كان يملأ وقته بنشاط دؤوب على كافة الأصعدة السياسية والإعلامية والإبداعية، ليس لديه وقت فراغ، وليس لديه ساعات دوام محددة، بل كان يسرق ساعات من الوقت المخصص لراحته ونومه.
هناك فرق نوعي بين أن نحيا وأن نعيش، وإذا استعرنا العبارة التي قالتها بطلة روايته "أم سعد" بأن "خيمة عن خيمة تفرق"، خيمة الذل واللجوء وخيمة الفدائيين والمقاتلين، فإنه يمكن القول كذلك أن عيشة عن عيشة تفرق، أن الحياة بمواجهة وكفاح وإبداع تختلف عن العيش كيفما اتفق بكسل واستسلام والرضا بحياة لا معنى لها ولا نكهة، حياة بلا حياة!
لذلك، كان غسان مدركاً لحقيقة أنه ليس المهم هو كم سنة نعيش، بل كيف نعيش، بمَ نملأ حياتنا، نوعية الحياة والدور الذي نقوم به فيها، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يجعل حياته طويلة، فعليه أن يعمل لجعل حياته عريضة، أي ثرية ونوعية، يظهر ذلك في تعليق كنفاني على موت الفيلسوف ألبير كامو : "أمس، توفي الفيلسوف الوجودي ألبير كامو.. صاحب فلسفة العبث، مات في موقف عبث، وأي رثاء له نوع من العبث ليس غير... لقد انتهى، وعليه أن يقنع بحياة عاشها عريضة، وان لم يستطع أن يجعلها طويلة" (أوراق خاصة، يوميات 1959-1960، 10-1-1960).
في ثنايا أعمال غسان كنفاني، وفي أوراقه ويومياته، نعثر على دراما الحياة والموت، يتبين لنا أحياناً كثيرة أن غسان لا يتحدث عن الآخرين بقدر ما يتحدث عن نفسه، عما يجول في نفسه، وعم يمور في روحه المتألقة والقلقة في آن. الاقتباسات التالية توضح ذلك:
- في قصة "موت سرير رقم 12" نقرأ: "إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت، إنها قضية الباقين، المنتظرين بمرارة دورهم لكي يكونوا درساً صغيراً للعيون الحية".
- في قصة "العطش": "أيها الرجل الكئيب.. هناك ما نسيته.. لن أقول لك ما هو. تجول في الغرفة كقطة محبوسة في خزانة طعام فارغة.. أتعرف ماذا نسيت؟ أن تعيش حياتك أنت، لا حياة أخرى".
- من يومياته بعنوان "قتيل في الموصل" نقرأ: "قال لي مرة فيما هو يقلب جريدة في يده.. "اسمع يا فيلسوفي الصغير.. الإنسان يعيش ستين سنة في الغالب، أليس كذلك؟ إنه يقضي نصفها في النوم.. بقي ثلاثين سنة.. اطرح عشر سنوات ما بين مرض وسفر وأكل وفراغ.. بقي عشرون.. إن نصف هذه العشرين قد مضت مع طفولة حمقاء.. ومدارس ابتدائية.. لقد بقيت عشر سنوات.. عشر سنوات فقط، أليست جديرة بأن يعيشها الإنسان بطمأنينة؟".
- في قصة "قرار موجز" التي كتبها في دمشق 21-7-1958 يقول غسان على لسان بطله عبد الجبار: "إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة".. "ليس المهم أن يموت أحدنا.. المهم أن تستمروا".
- في يومياته يكتب عن معاناته مع المرض وصراعه مع جسده: "إنه لثمن باهظ حتماً... أن يشتري الإنسان حياته اليومية بالألم... والقرف... والنكتة... إنه ثمن باهظ بلا شك... أن يشتري حياته اليومية بموت يومي".
ومن المهم أن نشير إلى ما كتبه غسان إلى ابنة أخته لميس في إحدى رسائله إليها، وهي التي استشهدت معه في السيارة أثناء الانفجار، لنرى أن غسان ليس فردا يعيش في برج عاجي معزولا عن الواقع والحياة، بل إنسان يربط نفسه بجيل.. وتاريخ.. وقضية.. وصراع، يقول غسان لابنة أخته الطفلة لميس عاقداً مقارنة بينه وبينها:
"أيتها العزيزة: أنت تصعدين الآن، فيما نحن بدأنا نهبط، لقد أوشك دورنا أن يتم.. كان دور هذا الجيل أقصر دور لأي جيل مرَّ في التاريخ، إننا نعيش لحظات حاسمة في تاريخ البشر، وهنالك الناس ينقسمون إلى معترِك، ومتفرج.. أما المتفرج فلسوف يعيش جيله كله، ويمتصه حتى آخره، أما المعترك، فسرعان ما سوف يسقط، فالمعركة قاسية، وقدرته الإنسانية لن تحتمل كثيراً ولقد اخترت أنا، أيتها الصغيرة، ألا أكون متفرجاً، وهذا يعني أنني اخترت أن أعيش اللحظات الحاسمة من تاريخنا مهما كانت قصيرة".
هذا هو غسان كنفاني، العلامة المضيئة في تاريخ الأدب الفلسطيني والعربي، المبدع المتعدد الذي ينطبق عليه قول بابلو نيرودا: "أعترف بأنني قد عشت"، رغم أنه لم يعش طويلاً، وكانت له حياة جميلة.. عميقة.. بعيدة الأثر، مع أنها حياة مفعمة بالصراع.. مغمسة بالعذاب.
*عدنان جابر..كاتب فلسطيني، دكتور في الفلسفة، أسير سابق ومبعد، يقيم في دمشق
يتبع ....