في زيارة أخيرة لتركيا التقيت نجم الدين أربكان ضمن تجمع من المثقفين والمهتمين بالتجربة التركية ودار بيننا نقاش طويل أتبعته بمقابلة خاصة شرح فيها الرجل رؤيته لمشروع " النظام العادل" الذي يبشر به.
يميز نجم الدين اربكان بين ما يسميه بالنظرة الإسلامية وبين النظرة الغربية للعالم ويرى أن هناك فروق كبيرة تجعلهما نقيضان لا يلتقيان، ويعتقد أن أهم ما يجب على تركيا فعله هو ترك التبعية للغرب والعودة مجددا للعالم الإسلامي الذي يمكن أن تتولى قيادته فيما ستبقي تابعة وذليلة إذا ما أصرت على أن تبقى متوجهة للغرب.
لدى أربكان موقف عدائي للصهيونية العالمية التي يراها مسئولة عن كل مصائب العالم وكوارثه وتقترب رؤيته لليهود مما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون.. إذا يرى أن الصهاينة وأعوانهم مسئولون عن إفساد العالم عبر ثلاث وسائل: الحروب ( ويري ان 11 سبتمبر عمل صهيوني لخدمة إسرائيل ) والأفكار المرذولة ( مثل أفلام هوليود ) والأنظمة السياسية والاقتصادية الدولية التي تسيطر عليها ( الأمم المتحدة- صندوق النقد- البنك الدولي ).
ويؤمن أربكان بأن هناك تحالف وثيق بين الصهيونية والرأسمالية العالمية الفاسدة أدى إلى حصار عالمي على المسلمين بحيث يتم التحكم في كل تعاملات العالم الإسلامي لتصب – في النهاية- في مصلحة إسرائيل.
يري أربكان أنه ليس بإمكان تركيا أن تقيم منفردة تجربة نهضة بل لابد من أن تكون ضمن مشروع عالمي شامل يعتمد على الإسلام ولابد أن يؤثر في شكل العالم ليصبح أكثر عدلا..يدعو الرجل إلى ما يسميه مؤتمر يالتا الثاني الذي يجب أن يؤسس لعالم جديد يتجاوز الظلم الذي تسبب فيه تحالف الصهيونية مع الرأسمالية.
يبدأ مشروع النظام العادل الذي تبناه أربكان بتأسيس اتحاد بين الدول الثمانية الإسلامية الكبار ( تركيا- مصر- ايران- نيجيريا- باكستان- اندونيسيا- بنجلاديش- ماليزيا )، وهو ما وضع بذرته حين تولى رئاسة الوزراء بتأسيس قمة الثمانية الكبار، على أن يتحول هذا تكون نواة لتجمع الستين دولة الإسلامية في منظمة واحدة تضمها يمكن أن تسمى بمنظمة الأمم المتحدة للدول الإسلامية.
وامتدادا لذلك فمن المفترض أن يتبنى المشروع تأسيس منظمة للتعاون الدفاعي المشترك بين الدول الإسلامية على غرار حلف الأطلسي ( الناتو)، ومنظمة لسوق إسلامية مشتركة على غرار الاتحاد الأوربي، والاتفاق على وحدة نقد مشتركة ( الدينار الإسلامي ) بدلا من التعامل بالدولار، وتأسيس منظمة للتعاون الثقافي للدول الإسلامية على غرار اليونيسكو.
بالرغم من اليوتوبيا التي يقوم عليها مشروعه فإن أربكان ليس هو الثائر الحالم الذي يجري وراء عواطفه من دون حساب. كما أنه ليس الانفعالي الذي قد يضطر إلى العنف .فالرجل طوال عمره لم تلجئوه التضييق والاضطهاد إلى العنف أو الخروج على النظام. وقد يصح النظر إلى أربكان كصاحب مشروع انقلابي ولكن على الهيمنة الغربية الرأسمالية على العالم.
حين استسفرت عما إذا كان انقلابيا جديدا .قال أربكان إن مقاومته سلمية مثل غاندي..وهي تقوم على مقاطعة النظام الاقتصادي الظالم الذي تتحكم فيه الرأسمالية الغربية المتوحشة، وهو متأثر جدا بنموذج غاندي الذي انتصر على بريطانيا بماعز واحدة؛ شرب لبنها ولبس صوفها مدة ستة أشهر إذ كان هذا دلالة على قدرته على الاستغناء عن الغرب وفي الأخير اضطرت بريطانيا إلى القبول بمطالبه..إنها مشروع للتخلص من أسر الاستهلاكية الغربية لإنجاز تحرر حقيقي...هو يرى أن العنف لا يجدي.وأن الرصاص الحقيقي الذي يؤثر في الغرب هو التحرر من قبضته وإقامة "النظام العادل"
سعى أربكان لتطبيق هذا المشروع في كل مراحل حياته ولما وصل إلى السلطة كان لابد أن يخرج منها إذ لم تكن تحتمله المعادلة السياسية ليس فقط في تركيا بل – وهذه هو الأهم- في العالم الذي تتحكم به توازنات دولية لم تكن لتسمح لأربكان ونظامه العادل بالاستمرار
أسقطت حكومة أربكان وحل حزبه ومنع من العمل السياسي ثم بدأت الحكومات التالية عليه في إلغاء كل ما قام به طوال فترة وزارته وخاصة مجموعة الثمانية الإسلامية التي تواطئ الجميع على تجميدها ثم إفراغها من مضمونها.
***
مع انقلاب العسكر في نوفمبر 1997 بدأ الخلاف ومن ثم الانقسام داخل الحركة الإسلامية التركية ( مللي جورش ) حيث ثار التساؤل: هل نبقى على مشروع النظام العادل أو الأربكانية الذي تسبب في الانقلاب؟ أم نبدأ تفاهما مع القوى الكبرى الأمريكية والغربية التي بيدها كل أوراق اللعبة بالمفهوم الساداتي؟ ( هل هناك وجه شبه بين التجربة الأربكانية والتجربة الناصرية؟!)
لقد دخلت الحركة طريقا طويلا للمراجعات تمايز فيه تياران: الأول يمثله المقربون من أربكان والقادة التاريخيين للحركة والثاني يمثله الجيل الأصغر سنا والأكثر برجماتية والذي واجهه أربكان بشدة ظهرت بانحيازه السافر لرجله المقرب رجائي قوطان ضد عبد الله جول في المنافسة على رئاسة حزب الفضيلة ( فاز قوطان بصعوبة وبدعم من أربكان ).. استمر الخلاف أربع سنوات تقريبا وحين جرى حل حزبها الجديد الرابع ( الفضيلة ) خرج الخلاف إلى العلن وانفصل التيار الثاني ( الشباب البرجماتيين ) وأسسوا حزبا مستقلا ( العدالة والتنمية ) فيما أسس القادة التاريخيون ي حزب ( السعادة ) الوارث الحقيقي للمشروع الأربكاني؛ مشروع النظام العادل.
***
لن نتوقف طويلا عند ملابسات تأسيس حزب العدالة والتنمية وما أحاط به من اتهامات قاسية من قبل القادة التاريخيين للحركة الإسلامية والتي وصلت إلى حد الاتهام بالعمالة لأمريكا وإسرائيل والادعاء بأن الورقة التأسيسية للحزب قدمت للسفارات الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية قبل أن تقدم للدولة التركية.. مثل هذه الاتهامات تبدو على قسوتها متوقعة في الحركات الأيديولوجية التي كثيرا ما تعمد إلى تخوين مخالفيها والخارجين عليها.
لكننا سنتوقف عند معالم المشروع الذي يطرحه حزب " العدالة والتنمية " والذي سيظهر- عند التحقيق- على النقيض تماما من مشروع الحركة الإسلامية الأم في نسختها الأربكانية.
مباشرة وقبل أن يحصل الحزب على وضعه القانوني أكد قادة العدالة والتنمية أنهم خلعوا عباءة الحركة الإسلامية (مللي جورش: الراي الوطني) وأن حزبهم هو حزب يميني محافظ لا صلة له من قريب أو من بعيد ب " الإسلامية"..ولم يتوقف الأمر عند التصريحات التي يمكن أن تكون موضوعا للشك أو المرواغة فقد اتبع الحزب سياسة مخالفة تماما ليس لما كانت عليه الحركة بل ولأي حزب يمكن أن يكون له من " الإسلامية " نصيب.
في المجال الديني الذي كان دائما نقطة الضعف قدّم العدالة والتنمية تنازلات مؤثرة هربا من تهمة " الإسلامية " التي تلاحقه فأبقى على الحظر المفروض على طلاب مدارس الأئمة والخطباء من دخول الكليات العلمية والنظرية، وأبقى علي الحظر المفروض على دخول المحجبات في الجامعات وكان أقصى ما فعله رئيس الحزب رجب طيب أردوغان أن أرسل بابنتيه للدراسة في أمريكا. بل إن الحزب أرسل في تقريره للمفوضية الأوربية لحقوق الإنسان نفيا قاطعا لأن تكون قضية الحجاب موضوعا لانتهاك حقوق الإنسان..وصرح نائب رئيس الوزراء بأنها لا تمثل مشكلة إلا عند 1.5% من الشعب التركي !
ووافقت حكومة العدالة والتنمية على مطالب الاتحاد الأوربي بإسقاط العقوبات القانونية في حق الزنا حيث كان فعلا مجرما بنص القانون التركي.. أكثر من هذا فقد صدرت ترجمات للقرآن الكريم أسقطت فيها الآيات التي تتحدث عن الجهاد أو اليهود والنصاري... إن مسلسل التنازلات يلخصه ما قاله عبد الله جول الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية: لقد انهارت حضارتنا الإسلامية ولابد من تغيير قيمنا تبعا للواقع الجديد!
أما في الملف الاقتصادي الذي قال الحزب أنه سيكون محور تركيزه بعيدا عن الجدل الديني.. سنلاحظ أن الحزب تبنى سياسة اقتصادية تقوم على الإدماج التام لتركيا في الاقتصاد العالمي وربطها بقوي الرأسمالية الغربية الكبري دون أي مساحة للاستقلال أو حتى المناورة .. ربما نجح الحزب في رفع معدل النمو الاقتصادي وتثبيت سعر صرف العملة الوطنية ( الليرة ) التي كانت في انهيار مستمر.. وربما أعاد للاقتصاد التركي بعضا من الاحترام الذي أهدرته الحكومات السابقة فأفقدت العالم الثقة فيه.. لكن الثمن كان غاليا.
لقد ربطت حكومة العدالة والتنمية تركيا وإلى غير رجعة بمراكز الهيمنة الغربية التي أنعشت الاقتصاد التركي ولكن جعلته هشا خاضعا بالكلية لدوائر النفوذ والمال في الغرب.. تقول المؤشرات إن 65 مليار دولار من حجم تعاملات البورصة لمستثمرين غربيين وكلها أوراق مالية لا صلة لها بالاستثمار الحقيقي، وهو ما يهدد الاقتصاد التركي بتكرار تجربة جنوب شرق آسيا أو انهيار النمور الآسيوية في حال رغبة بعض كبار المستثمرين في فعل ذلك.
كما أن 70% من ودائع البنوك التركية هي ودائع غربية تدفع عليها البنوك التركية فوائد هي الأكبر من نوعها في أوربا ( تصل 15 % )..ولن نتوقف طويلا عند قضية الفوائد من الناحية الشرعية بعدما أكد طيب أردوغان أنه لا مفر من الفوائد لبناء الاقتصاد.. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع حجم ديون البلاد من 221 مليارا قبل خمس سنوات إلى 383 مليارا.
ورغم ارتفاع معدلات النمو في الاقتصاد التركي في فترة حكم العدالة والتنمية والتي انعكست على شعور المواطن التركي معها بالاستقرار إلا أنها لم تعكس تحسنا في وضع هذا المواطن بقدر ما ذهبت ضحية سوء توزيع الدخل بسبب هيمنة رجال الأعمال الذين امتصوا هذا النمو وهو ما يمكن أن نفهمه من الإحصاءات الأخيرة التي نشرتها مجلة فوربس عن أغنى أغنياء العالم حيث ارتفع عدد المليارديرات الأتراك في السنوات الخمس الأخيرة إلى 24 مليارديرا بدلا من 6 فقط قبل حكم العدالة والتنمية.
يتبع .....